فصل: سئل: عن أجناد يمتنعون عن قتال التتار ويقولون‏:‏ إن فيهم من يخرج مكرهًا معهم؟‏

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: مجموع فتاوى ابن تيمية **


/ وَسُئِل ـ رَحِمَهُ اللّه وَرَضِىَ عنه‏:‏ عن أجناد يمتنعون عن قتال التتار، ويقولون‏:‏ إن فيهم من يخرج مكرهًا معهم، وإذا هرب أحدهم هل يتبع أم لا‏؟‏

فأجاب‏:‏

الحمـد لله رب العالمـين، قتال التتار الذين قـدمـوا إلى بلاد الشام واجب بالكتاب والسنة؛ فإن الله يقول فى القرآن‏:‏ ‏{‏وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لاَ تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ كُلُّهُ‏}‏ ‏[‏الأنفال‏:‏ 39‏]‏، والدين هو الطاعة، فإذا كان بعض الدين لله وبعضه لغير الله، وجب القتال حتى يكـون الدين كلـه لله؛ ولهذا قـال الله تعالى‏:‏ ‏{‏يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اتَّقُواْ اللّهَ وَذَرُواْ مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبَا إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ فَإِن لَّمْ تَفْعَلُواْ فَأْذَنُواْ بِحَرْبٍ مِّنَ اللّهِ وَرَسُولِهِ‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 278، 279‏]‏، وهذه الآية نزلت فى أهل الطائف لما دخلوا فى الإسلام والتزموا الصلاة والصيام؛ لكن امتنعوا من ترك الربا‏.‏ فبين الله أنهم محاربون له ولرسوله إذا لم ينتهوا عن الربا‏.‏ والربا هـو آخر مـا حـرمـه الله، وهـو مال يؤخذ برضا صاحبه‏.‏ فإذا كان هؤلاء محاربين لله ورسـوله يجب جهادهم، فكيف بمـن يترك كثيرًا من شرائع الإسلام أو أكثرها كالتتار‏؟‏‏!‏

/وقــد اتفـق علمـاء المسلمـين على أن الطائفـة الممتنعة إذا امتنعت عـن بعض واجبـات الإسلام الظاهرة المتواترة فإنه يجب قتالها، إذا تكلموا بالشهادتين وامتنعوا عن الصلاة والزكـاة، أو صيام شهـر رمضان، أو حج البيت العتيق، أو عن الحكم بينهم بالكتاب والسنة، أو عن تحريم الفواحش، أو الخمر، أو نكاح ذوات المحارم، أو عن استحلال النفوس والأموال بغير حق، أو الربا، أو الميسر، أو الجهاد للكفار، أو عن ضربهم الجزية على أهل الكتاب، ونحو ذلك من شرائع الإسلام، فإنهم يقاتلون عليها حتى يكون الدين كله لله‏.‏

وقد ثبت فى الصحيحين أن عمر لما ناظر أبا بكر فى مانعى الزكاة قال له أبو بكر‏:‏ كيف لا أقاتل من ترك الحقوق التى أوجبها الله ورسوله وإن كان قد أسلم، كالزكاة‏؟‏‏!‏ وقال له‏:‏ فإن الزكاة من حقها، والله لو منعونى عناقًا كانوا يؤدونها إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم لقاتلتهم على منعها‏.‏ قال عمر‏:‏ فما هو إلا أن رأيت الله قد شرح صدر أبى بكر للقتال فعلمت أنه الحق‏.‏

وقد ثبت فـى الصحيـح مـن غير وجه أن النبى صلى الله عليه وسلم ذكر الخوارج وقال فيهم‏:‏ ‏(‏يحقر أحـدكم صـلاته مع صـلاتهم، وصيامه مع صيامهم، وقراءته مع قراءتهم، يقرؤون القرآن لا يجاوز حناجرهم، يمرقون من الإسلام كما يمرق السهم من الرمية، أينما لقيتموهم /فاقتلوهم، فإن فى قتلهم أجرًا عند الله لمن قتلهم يوم القيامة، لئن أدركتهم لأقتلنهم قتل عاد‏)‏‏.‏

وقد اتفق السلف والأئمة على قتال هؤلاء، وأول من قاتلهم أمير المؤمنين على بن أبى طالب ـ رضى الله عنه ـ وما زال المسلمون يقاتلون فى صدر خلافة بنى أمية وبنى العباس مع الأمراء وإن كانوا ظلمة، وكان الحجاج ونوابه ممن يقاتلونهم‏.‏ فكل أئمة المسلمين يأمرون بقتالهم‏.‏

والتتار وأشباههم أعظم خروجًا عن شريعة الإسلام من مانعى الزكاة والخوارج من أهل الطائف، الذين امتنعوا عن ترك الربا‏.‏ فمن شك فى قتالهم فهو أجهل الناس بدين الإسلام، وحيث وجب قتالهم قوتلوا، وإن كان فيهم المكره باتفاق المسلمين‏.‏ كما قال العباس ـ لما أسر يوم بدر ـ‏:‏ يا رسول الله، إنى خرجت مكرهًا‏.‏ فقال النبى صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏أما ظاهرك فكان علينا، وأما سريرتك فإلى الله‏)‏‏.‏

وقد اتفق العلماء على أن جيش الكفار إذا تَتَرَّسُوا بمن عندهم من أسرى المسلمين، وخيف على المسلمين الضرر إذا لم يقاتلوا، فإنهم يقاتلون؛ وإن أفضى ذلك إلى قتل المسلمين الذين تترسوا بهم‏.‏ وإن /لم يخف على المسلمين ففى جواز القتال المفضى إلى قتل هؤلاء المسلمين قولان مشهوران للعلماء‏.‏ وهؤلاء المسلمون إذا قتلوا كانوا شهداء، ولا يترك الجهاد الواجب لأجل من يقتل شهيدًا، فإن المسلمين إذا قاتلوا الكفار فمن قُتِلَ من المسلمين يكون شهيدًا، ومن قتل وهو فى الباطن لا يستحق القتل لأجل مصلحة الإسلام كان شهيدًا‏.‏ وقد ثبـت فى الصحيحين عن النبى صلى الله عليه وسلم أنه قال‏:‏ ‏(‏يغزو هذا البيت جيش من الناس، فبينما هم ببيداء من الأرض إذ خسف بهم‏)‏‏.‏ فقيل‏:‏ يا رسول الله، وفيهم المكره‏؟‏ فقال‏:‏ ‏(‏يبعثون على نياتهم‏)‏‏.‏ فإذا كان العذاب الذى ينزله الله بالجيش الذى يغزو المسلمين ينزله بالمكره وغير المكره، فكيف بالعذاب الذى يعذبهم الله به أو بأيدى المؤمنين، كما قال تعالى‏:‏ ‏{‏قُلْ هَلْ تَرَبَّصُونَ بِنَا إِلاَّ إِحْدَى الْحُسْنَيَيْنِ وَنَحْنُ نَتَرَبَّصُ بِكُمْ أَن يُصِيبَكُمُ اللّهُ بِعَذَابٍ مِّنْ عِندِهِ أَوْ بِأَيْدِينَا فَتَرَبَّصُواْ إِنَّا مَعَكُم مُّتَرَبِّصُونَ‏}‏ ‏[‏التوبة‏:‏ 52‏]‏‏.‏

ونحن لا نعلم المكره، ولا نقـدر على التمييز‏.‏ فإذا قتلناهم بأمر الله كنا فى ذلك مأجورين ومعذورين،وكانوا هم على نياتهم، فمن كان مكرهًا لا يستطيع الامتناع فإنه يحشر على نيته يوم القيامة، فإذا قتل لأجل قيام الدين لم يكن ذلك بأعظم من قتل من يقتل من عسكر المسلمين‏.‏ وأما إذا هرب أحدهم فإن من الناس من يجعل قتالهم بمنزلة قتال البغاة المتأولين‏.‏

/وهؤلاء إذا كان لهم طائفة ممتنعة، فهل يجوز اتباع مدبرهم، وقتل أسيرهم، والإجهاز على جريحهم‏؟‏ على قولين للعلماء مشهورين‏.‏ فقيل‏:‏ لا يفعل ذلك؛ لأن منادى على بن أبى طالب نادى يوم الجمل‏:‏ لا يتبع مدبر، ولا يجهز على جريح، ولا يقتل أسير‏.‏ وقيل‏:‏ بل يفعل ذلك؛ لأنه يوم الجمل لم يكن لهم طائفة ممتنعة‏.‏ وكان المقصود من القتال دفعهم، فلما اندفعوا لم يكن إلى ذلك حاجة، بمنزلة دفع الصائل‏.‏ وقد روى‏:‏ أنه يوم الجمل وصفين كان أمرهم بخلاف ذلك‏.‏ فمن جعلهم بمنزلة البغاة المتأولين، جعل فيهم هذين القولين‏.‏ والصواب أن هؤلاء ليسوا من البغاة المتأولين؛ فإن هؤلاء ليس لهم تأويل سائغ أصلا، وإنما هم من جنس الخوارج المارقين ومانعى الزكاة وأهل الطائف‏.‏ والخرمية ونحوهم ممن قوتلوا على ما خرجوا عنه من شرائع الإسلام‏.‏

وهذا موضع اشتبه على كثير من الناس من الفقهاء؛ فإن المصنفين فى ‏[‏قتال أهل البغى‏]‏ جعلوا قتال مانعى الزكاة، وقتال الخوارج، وقتال على لأهل البصرة، وقتاله لمعاوية وأتباعه من قتال أهل البغى، وذلك كله مأمور به، وفرعوا مسائل ذلك تفريع من يرى ذلك بين الناس، وقد غلطوا، بل الصواب ما عليه أئمة الحديث والسنة وأهل المدينـة النبويـة، كالأوزاعى، والثورى، ومالك، وأحمد بن حنبل، /وغيرهم، أنهم يفرق بين هذا وهذا‏.‏ فقتال على للخوارج ثابت بالنصوص الصريحة عن النبى صلى الله عليه وسلم باتفاق المسلمين، وأما القتال ‏[‏يوم صفين‏]‏ ونحوه فلم يتفق عليه الصحابة، بل صد عنه أكابر الصحابة، مثل سعد بن أبى وقاص، ومحمد بن مسلمة، وأسامة بن زيد، وعبد الله بن عمر، وغيرهم‏.‏ ولم يكن بعد على بن أبى طالب فى العسكرين مثل سعد بن أبى وقاص‏.‏

والأحـاديث الصحيحـة عـن النبى صلى الله عليه وسلم تقتـضى أنـه كـان يجـب الإصـلاح بين تينـك الطائفتين، لا الاقتتال بينهما، كما ثبت عنه فى صحيح البخارى أنه خطب الناس والجيش معه، فقال‏:‏ ‏(‏إن ابنى هذا سـيد، وسيصلح الله به بين طائفتين عظيمتين من المؤمنين‏)‏، فأصلح الله بالحسن بين أهل العراق وأهل الشام، فجعل النبى صلى الله عليه وسلم الإصلاح به من فضائل الحسن، مع أن الحسن نزل عن الأمر وسلم الأمر إلى معاوية‏.‏ فلو كان القتال هو المأمور به دون ترك الخلافة ومصالحة معاوية لم يمدحه النبى صلى الله عليه وسلم على ترك ما أمر به وفعل ما لم يؤمر به، ولا مدحه على ترك الأولى وفعل الأدنى‏.‏ فعلم أن الذى فعله الحسن هو الذى كان يحبه الله ورسوله، لا القتال‏.‏ وقد ثبت فى الصحيح أن النبى صلى الله عليه وسلم كان يضعه وأسامة على فخذيه‏.‏ ويقول‏:‏ ‏(‏اللهم إنى أحبهما،فأحبهما، وأحب /من يحبهما‏)‏‏.‏ وقد ظهر أثر محبة رسول الله صلى الله عليه وسلم لهما بكراهتهما القتال فى الفتنة؛ فإن أسامة امتنع عن القتال مع واحدة من الطائفتين، وكذلك الحسن كان دائمًا يشير على علىٍّ بأنه لا يقاتل، لما صار الأمر إليه فعل ما كان يشير به على أبيه ـ رضى الله عنهم أجمعين‏.‏

وقد ثبت عنه صلى الله عليه وسلم فى الصحيح أنه قال‏:‏ ‏(‏تمرق مارقة على حين فرقة من المسلمين، تقتلهم أولى الطائفتين بالحق‏)‏، فهذه المارقة هم الخوارج، وقاتلهم على بن أبى طالب‏.‏ وهذا يصدقه بقية الأحاديث التى فيها الأمر بقتال الخوارج وتبين أن قتلهم مما يحبه الله ورسوله، وأن الذين قاتلوهم مع على أولى بالحق من معاوية وأصحابه، مع كونهم أولى بالحـق‏.‏ فلم يأمـر النبى صلى الله عليه وسلم بالقتال لواحـدة من الطائفتين، كما أمر بقتال الخوارج، بل مـدح الإصلاح بينهما‏.‏ وقد ثبت عـن النبى صلى الله عليه وسلم من كراهة القتال فى الفتن والتحذير منها من الأحاديث الصحيحة ما ليس هذا موضعه، كقوله‏:‏ ‏(‏ستكون فتن، القاعد فيها خير من القائم، والقائم فيها خير من الماشى، والماشى خير من الساعى‏)‏، وقال‏:‏ ‏(‏يوشك أن يكون خير مال المسلم غنم يتبع بها شعف الجبال، ومواقع القطر، يفر بدينه من الفتن‏)‏‏.‏

/فالفتن مثـل الحروب التى تكون بين ملوك المسلمين، وطوائف المسلمين، مع أن كل واحـدة مـن الطائفتين ملتزمـة لشرائع الإسلام‏.‏ مثل ما كان أهل الجمل وصفين؛ وإنما اقتتلوا لشبه وأمور عرضت، وأما قتال الخوارج ومانعى الزكاة وأهل الطائف الذين لم يكونوا يحرمون الربا، فهؤلاء يقاتلون حتى يدخلوا فى الشرائع الثابتة عن النبى صلى الله عليه وسلم‏.‏

وهؤلاء إذا كان لهم طائفة ممتنعة، فلا ريب أنه يجوز قتـل أسيرهم واتباع مدبرهم، والإجهاز على جريحهم؛ فإن هؤلاء إذا كانوا مقيمين ببلادهم على ما هم عليه، فإنه يجب على المسلمين أن يقصدوهم فى بـلادهم لقتالهم، حتى يكون الدين كله لله‏.‏ فإن هؤلاء التتار لا يقاتلون على دين الإسلام، بل يقاتلون الناس حتى يدخلوا فى طاعتهم، فمن دخل فى طاعتهم كفوا عنه وإن كان مشركًا أو نصرانيًا أو يهوديًا، ومن لم يدخل كان عدوًا لهم وإن كان من الأنبياء والصالحين‏.‏ وقد أمر الله المسلمين أن يقاتلوا أعداءه الكفار، ويوالوا عباده المؤمنين‏.‏ فيجب على المسلمين من جند الشام ومصر واليمن والمغرب جميعهم، أن يكونوا متعاونين على قتال الكفار، وليس لبعضهم أن يقاتل بعضًا بمجرد الرياسة والأهواء‏.‏ فهؤلاء التتار أقل ما يجب عليهم أن يقاتلوا من يليهم من الكفار، وأن يكفوا عن قتال من يليهم من المسلمين، ويتعاونون هم وهم على /قتال الكفار‏.‏

وأيضًا، لا يقاتل معهم غير مكره إلا فاسق، أو مبتدع، أو زنديق، كالملاحدة القرامطة الباطنية، وكالرافضة السبابة، وكالجهمية المعطلة من النفاة الحلولية، ومعهم ممن يقلدونه من المنتسبين إلى العلم والدين من هو شر منهم؛ فإن التتار جهال يقلدون الذين يحسنون به الظن، وهم لضلالهم وغيهم يتبعونه فى الضلال الذى يكذبون به على الله ورسوله، ويبدلون دين الله، ولا يحرمون ما حرم الله ورسوله، ولا يدينون دين الحق‏.‏ ولو وصفت ما أعلمه من أمورهم لطال الخطاب‏.‏

وبالجملة، فمذهبهم ودين الإسلام لا يجتمعان، ولو أظهروا دين الإسلام الحنيفى الذى بعث رسوله به لاهتدوا وأطاعوا، مثل الطائفة المنصورة؛ فإن النبى صلى الله عليه وسلم قد ثبت عنه أنه قال‏:‏ ‏(‏لا تزال طائفة من أمتى ظاهرين على الحق، لا يضرهم من خالفهم، ولا من خذلهم، حتى تقوم الساعة‏)‏، وثبت عنه فى الصحيح أنه قال‏:‏ ‏(‏لا يزال أهل الغرب ظاهرين‏)‏، وأول الغرب ما يسامت البيرة ونحوها؛ فإن النبى صلى الله عليه وسلم تكلم بهذا الكلام وهو بالمدينة النبوية، فما يغرب عنها فهو غرب، كالشام ومصر‏.‏ وما شرق عنها فهو شرق، كالجزيرة والعراق‏.‏ وكان السلف يسمون أهل الشام‏:‏ ‏[‏أهل المغرب‏]‏‏.‏ ويسمون أهل العراق‏:‏ ‏[‏أهل المشرق‏]‏‏.‏ وهذه الجملة التى ذكرتها فيها /من الآثار والأدلة الشرعية ما هو مذكور فى غير هذا الموضع‏.‏ والله أعلم‏.‏